كشفت تلاوة قرار إحالة المتهمين في قضية "الطريق السيار"، بعد انطلاق إجراءات المحاكمة الجنائية بمجلس قضاء الجزائر العاصمة، أمس، عن بلوغ الفساد مراحل فاقت التصور في وزارة الأشغال العمومية وتفرعها إلى وزارات أخرى وقطاعات في إطار صفقات مشبوهة مقابل مزايا وعمولات بملايين الدولارات، التي كان أصحابها يجنونها بناء على معارفهم أو مناصبهم، لتمكين شركات أجنبية من الظفر بمشاريع وصفقات في قطاع الأشغال العمومية والنقل.
... وانطلقت المحاكمة
كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا، عندما دخل القاضي هلالي مرفوقا بمستشاريه، ليعلن المواصلة في إجراءات المحاكمة، التي تم إرجاؤها الأحد الفارط، وبعد مناداته على الأطراف من متهمين وشهود وممثلي الشركات الأجنبية، تقدم دفاع شاني الأستاذ سيدهم أمين وبلعريف الطيب، من جديد لإعلان التأسيس في غياب المحاميين الفرنسي وليام بوردون واللوكسمبورغي فيليب بيينغ، وحاول القاضي تنظيم سير الجلسة منذ البداية بتخصيص مكان للصحفيين والمحامين.
كما نبه كل الحاضرين إلى ضرورة إغلاق الهواتف النقالة أثناء الجلسة، والملاحظ أن الشاهدين، مدير إقامة الدولة حميد ملزي وكذا نجل أبوجرة سلطاني غابا عن المحاكمة، حيث طلب القاضي من الشهود الحاضرين مغادرة القاعة، بعد تشكيل محكمة الجنايات، حيث كانت الساعة تشير إلى10 و40 دقيقة صباحا، لما طلب القاضي من كاتب الضبط المناداة على المحلفين وشرح طريقة الاختيار للمتهمين والذين تركوا مهمة الانتقاء للمحامين.
وقام محامو شاني بردّ ثلاثة محلفين، قبل أن يتم اختيار الاثنين اللذين سيشاركان في المحاكمة، ليتلو عليهما القاضي نص أداء اليمين ليقسما على أن يلتزما بالسر الخاص بالجلسة ويشاركا بكل صدق في المحاكمة، وفي تلك الأثناء حاول المحامي بورايو التقدم ببعض الملاحظات، لكن القاضي ذكره أن الدفوعات الشكلية ستجيب عنها المحكمة في الموضوع، مشيرا إلى أن الجلسة هي استمرار للسابقة.
وبعد تأكد رئيس المحكمة من صحة الإجراءات وعدم إبداء أي طرف لأي ملاحظات، طلب من كاتب الضبط تلاوة قرار الإحالة باختصار، غير أن المحامين اعترضوا على ذلك، وطلبوا من هيئة المحكمة أن تتم تلاوة القرار كاملا والذي يضم أكثر من 270 صفحة، وهذا ليتسنى للمحلفين معرفة الوقائع، وهو ما جعل القاضي يعدل عن قراره، ليقول لكاتب الضبط أن يعلمه إذا أحس بالتعب ليكلف زميلا له بمساعدته، وأبدى هلالي ملاحظة عند قراءة قرار الإحالة، طالبا من كاتب الضبط عدم ذكر الصفة العسكرية للعقيد خالد، ما جعل الدفاع يستنكر ذلك، معتبرا أنه تزييف للوقائع، فيما تمسك القاضي بموقفه، مشيرا إلى أنه رئيس الجلسة ويحق له إبداء ملاحظاته، ليعلق "أنا القاضي ولا تخيفني الصفة العسكرية"، وتابع "لسنا في محكمة عسكرية".
شركات وهمية لتلقي عمولات من الشركة الصينية
كشفت تصريحات المتهم الرئيس في الملف شاني مجذوب، أمام الضبطية القضائية ـ حسب قرار الإحالة ـ بأنه ربطته علاقة مشبوهة مع المجمع الصيني "سيتيك" المكلف بإنجاز الطريق السيّار شرق ـ غرب، وسعيا منه للحصول على امتيازات وعمولات، خطط للتقرب من إطارات بوزارة الأشغال العمومية، مدعيا أنه يعمل في المخابرات، بعدما تمكن من الدخول إلى قلب المجمع الصيني "سيتيك" سنة 2007، مستغلا علاقته بابنة مدير المجمع، وللوصول إلى إطارات الوزارة، اتصل بمدير إقامة الدولة حميد ملزي، ليطلب منه تعريفه على مسؤولي الأشغال العمومية، ليعرفه على الأمين العام للوزارة بواشمة محمد، حيث قدم نفسه لهذا الأخير بمساعدة العقيد خالد وادعى أنه ممثل الشركة الصينية، وتطورت علاقته مع هذا الأخير والذي التقاه سبع مرات ليتوسط للشركة الصينية التي كانت تواجهها مشاكل في الجزائر.
كل هذه الخدمات كانت ـ حسب التصريحات ـ مقابل عمولات كان يتلقاها شاني من الشركة الصينية في حسابات بالخارج لشركات وهمية تدار عن طريق شركة "انتماك" بهونكونغ، ورأسمالها كبير جدا، أنشأها خصيصا للعمولات والتي ارتفعت من نسبة 0,79 بالمئة إلى نسبة تعدت 4 بالمئة، مستغلا تعليمة الحكومة لوزارة الأشغال العمومية بأولوية إنجاز مشروع الطريق السيّار، حتى يتوسط للمجمع الصيني ويستفيد من مزايا، موهما المجمع ذاته أنه صاحب نفوذ بالوزارة، وذهب المتهم في تصريحاته إلى الاعتراف بمجموع الهدايا التي تلقاها والتي منحها أيضا للأمين العام للوزارة، كما كشف أن الهدف من إنشاء الشركات الوهمية هو تبييض الأموال.
.. حتى الشاب خالد استفاد من أموال المجمع الصيني
ومن التصريحات التي أدلى بها المتهم شاني، أنه تلقى عمولة مالية بملغ 11 مليار سنتيم على دفعتين في مارس وأفريل 2008، من قبل المجمع الصيني، واحدة تم ضخها بشركة اوريفلام بدالي إبراهيم والثانية استفاد منها الكينغ خالد، والذي أحيا حفلين متعاقبين لمنتجات "أوريفلام"، كما ذكر أن الأمين العام للوزارة تلقى هدايا تمثلت في أدوات تجميل وقلادة من النوع الرفيع بمبلغ 500 أورو، ونفى منحه مبلغا ماليا مثلما اعترف من قبل، واختلفت مبالغ الهدايا والرشاوى والتي فاقت الملايير كما تمثلت في سفريات وحتى شوكلاطة فاخرة ومشروبات كحولية.
كما أن شاني منح فيلا "للعقيد خالد" والذي بدوره باعها إلى الشاب خالد بمبلغ 2,8 مليار سنتيم بوهران. كما تم دفع مبالغ مالية له عن طريق حساب شركة "اوريفلام" المختصة في بيع مواد التجميل المملوكة للمتهم شاني مجذوب، كما منحه مبلغا لتأثيث منزله وآخر لشراء سيارة لزوجته.
هذا هو عدو شاني
ومن التصريحات المثيرة التي تقدم بها المتهم عدو سيد احمد تاج الدين، أمام مصالح الضبطية، أن شاني أصبح يمثل بالنسبة للشركات الأجنبية وسيطا أمثل لدى "السلطات الجزائرية"، للظفر بمشاريع وصفقات، وأشار إلى أنه التقى شاني في نوفمبر 2008، وطلب منه التوسط له لدى مدير البرامج بوكالة الطريق السريع المتهم خلادي محمد، هذا الأخير رفض التعامل معهما، وكشفت تصريحات عدو أنه سبق له الحصول على عمولات مقابل التوسط لعدة شركات أجنبية، كما توسط للشركة الكندية التي دفعت له مبلغ 353 دولار للحصول على عقد مشروع الطريق بالهضاب العليا، بعدما تحصل على معلومات من قبل "غ. أحمد" إطار بوزارة الأشغال العمومية.. وهو الذي توسط له عند الوزير عمار غول لتشغيله، وبعدها عرض على الوزير أن يساعده لتكون شركة "أس أن سي لافالان" مكتب الدراسات الذي يتكفل بالطريق السيار، غير أن وزير الأشغال العمومية آنذاك، عمار غول رفض ذلك، كما رفض الوساطة للشركة الفرنسية، وما يلفت الانتباه أن نجل أبوجرة سلطاني، أسامة، هو من تولى الوساطة للشركة لتحصل على المشروع فيما بعد، وأن الوزير غول قام بإنذار الشركة الصينية لعدة مخالفات ارتكبتها وهددها بترحيلها من الجزائر.
ومن بين تصريحات المتهم عدو سيد أحمد، للضبطية القضائية، أن العمولات في الطريق السيار كانت توزع بنسبة 1.25 بالمئة ـ حسبه ـ على مسؤول كبير بالقطاع ورضا بجاوي وصاحب شركة فرنسية تسمى "بيار.ف"، وكانت شركة "سيتيك" الصينية تتولى عملية دفع تلك العمولات.
الأمين العام للوزارة: حميد ملزي عرفني على شاني
وأكد الأمين العام لوزارة الأشغال العمومية بوشامة محمد خلال استجوابه من قبل مصالح الضبطية القضائية لي أنه تعرف على المتهم شاني مجذوب عن طريق حميد ملزي مدير إقامة الدولة سنة 2008، على أساس أنه مسير مالي بالشركة الصينية سيتيك، وطلب منه تحديد موعد له بمكتبه للتحدث عن مشاكل شركة "سيتيك" الصينية في إطار انجاز مشروع الطريق السيار.
وأكد أنه التقاه في بكين لما كان يترأس وفدا للوزارة هناك، ونفى في السياق تسلمه لمبلغ مالي بقيمة مليار سنتيم من عند شاني كعمولة لتسوية المشاكل العالقة للشركة الصينية، مشيرا إلى أن الهدايا التي تلقاها بسيطة جدا تتمثل في مواد تجميل لا تتعدى قيمتها 1000 دج وعقد من "الياقوت" جلبه له من الصين، لا تتعدى قيمته 40 أورو، وقلم "مون بلون" وطلب منه عدم إحراجه بالهدايا التي تجذب الشبهات.
صندوق أسود لرشوة المسؤولين
من جهته، المتهم خلادي محمد ضابط سابق، أكد أن المتهم شاني أخبره أنه يعمل لصالح المخابرات وعندما تعرف عليه أعلمه أنه ممثل المجمع الصيني، وذهب في تصريحاته إلى حد القول إن المجمع الصيني كان يعتبر صندوقا أسود للعمولات والفساد، وكشف خلادي أنه تعرف على الوزير عمار غول لما كان على رأس وزارة الصيد البحري، ولما انتقل إلى وزارة الأشغال العمومية طلب منه أن يتقلد منصب مدير المشاريع الجديدة حتى يتم إحياء مشروع الطريق الذي كان مجمدا.
.. وتحت إلحاح غول وتلبية للنداء الواجب قبل المنصب، انطلق في العمل، ليكتشف بعدها عدة خروقات ارتكبتها الشركة الصينية "سيتيك" حيث أن المواد المستعملة غير مطابقة للمعايير، وهي أقل سعرا وليست بالمواصفات المطلوبة، ما جعله يقدم تقريرا بذلك، كما صرح أنه اكتشف الفساد الذي كان يطال الصفقات بعد لقائه بالمتهم شاني بمقهى مقابل جامعة دالي إبراهيم لأول مرة وطلب منه حل مشاكل المجمع الصيني "سيتيك" بخصوص استعمال مواد "تسطيح الطريق" والتي تبين أنها غير مطابقة، وقال إنه أبلغ الوزير بكل تلك الخروقات وهو الذي بلغ عن الفساد الذي طال مشروع الطريق السيار وعن اشتباهه في تورط الأمين العام بالوزارة، ولم يتخذ الوزير حينها أي إجراء، كما كشف عن وجود صندوق أسود في المجمع الصيني لرشوة مسؤولين جزائريين.
الرشوة طالت مشاريع الترامواي ووزارة النقل
وتبرز من خلال تصريحات المتهم عدو سيد أحمد، أثناء التحقيق أن الفساد والرشوة طالت حتى مشاريع وزارة النقل، على غرار مشروع ترامواي قسنطينة ووهران، حيث توسط للمجمع الفرنسي عن طريق المتهم "علاب الخير" رجل أعمال، مقابل حصوله على عمولة بنسبة 15 بالمئة من الشركة الفرنسية، غير أنه لم يتحصل عليها، كما أن هذا الأخير كانت تربطه علاقات مع عدة شركات أجنبية ومنها الشركة الإيطالية التي تحصلت على صفقة مشروع مصاعد قسنطينة وساعده زوج ابنة السفير غريب والمتابعة برفقة شقيقتها في الملف لتسلمهما مبالغ مالية في حساباتهما البنكية، حيث ساعده حمدان رشيد في منحه معلومات عن مشاريع وزارة النقل، ليقوم عدو سيد احمد بالتوسط للشركات الأجنبية مقابل عمولات بالملايير للحصول على مشروع الترامواي والميترو وكذا مصاعد.
اجتماع وزاري غاب عنه شكيب وبن أشنهو
وكشف شاني مجذوب لدى استجوابه أن إطلاق مشروع الطريق السيار، اكتنفته عدة عراقيل بداية برفض وزير المالية بن أشنهو حضور رجل أعمال فرنسي "بيار باركون" في اجتماع وزاري كان مخصصا لمناقشة طرق تمويل المشروع الذي سيمنح للمجمع الصيني "سيتيك" وتم طرح فكرة منح المشروع مقابل البترول، غير أن شكيب خليل وزير الطاقة آنذاك امتنع بمعية وزير المالية بن أشنهو عن حضور الاجتماع باعتبار أنه من غير المعقول أن يشارك شخص أجنبي في اجتماع وزاري، ليتم اتخاذ قرار الاتجاه إلى مناقصة دولية والتي فازت بها الشركة الصينية "سيتيك".
شاني: تعرضت للتعذيب لأعترف تحت الضغط
بعد إدلاء شاني مجذوب بتصريحات نارية ومتسلسلة في البداية، عاد لينفي كل تصريحاته أمام قاضي التحقيق، حيث أكد أن كل ما قاله أمام مصالح الضبطية القضائية كان "تحت التعذيب"، حيث تم حجزه لمدة 20 يوم في مكان لا يعرفه وتم منعه من الاتصال بعائلته وحتى محاميه، مشيرا إلى أنه لا علاقة له بوقائع الفساد في الملف، ونفس الشيء بالنسبة لباقي المتهمين الذين تنصلوا من اعترافاتهم السابقة، في انتظار ما ستسفر عنه جلسات المحاكمة في الأيام المقبلة.