عنِ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: “لَو أَنَّكُم تَوكَّلُون على اللّه حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَما يَرزُقُ الطَّيرَ، تَغدُو خِماصًا، وتَروحُ بِطانًا” رواه الإمام أحمد والتّرمذي والنّسائي وابن ماجه وابن حبّان في صحيحه والحاكِم، وقال التّرمذي: حسن صحيح.
هذا الحديث أصل في التوكُّل، وأنَّه من أعظم الأسباب الّتي يُستجلب بها الرِّزقُ، قال اللّه عزّ وجلّ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه فَهُوَ حَسْبُهُ} الطّلاق:2-3، وقد قرأ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم هذه الآية على أبي ذرٍّ، وقال له: “لو أنَّ النّاسَ كُلَّهم أخَذوا بها لَكَفتهم” أخرجه أحمد وابن ماجه والنّسائي، يعني: لو أنّهم حقَّقوا التَّقوى والتوكُّل؛ لاكتَفَوا بذلك في مصالح دينهم ودنياهم.
قال بعضُ السّلف: “بِحَسبِكَ من التوسّل إليه أن يَعلَمَ من قلبك حُسنَ توكُّلك عليه، فكم من عبدٍ من عباده قد فوَّضَ إليه أمره، فكفاه منه ما أهمّه” أخرجه ابن أبي الدُّنيا في التوكُّل، ثمّ قرأ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}.
وحقيقة التوكّل: هو صدقُ اعتماد القلب على اللّه تعالى في استجلاب المصالح، ودفعِ المضارِّ من أمور الدُّنيا والآخرة كُلِّها، وكِلَةُ الأمور كلّها إليه، وتحقيق الإيمان بأنّه لا يُعطي ولا يمنعُ ولا يَضرُّ ولا ينفع سواه.
واعلم أنَّ تحقيق التوكُّل لا يُنافي السَّعي في الأسباب الّتي قدَّر اللّه سبحانه المقدورات بها، وجرت سُنَّته في خلقه بذلك، فإنَّ اللّه تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكُّل، فالسَّعيُ في الأسباب بالجوارح طاعةٌ له، والتوكُّلُ بالقلب عليه إيمانٌ به، كما قال اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} النّساء:71، وقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الأنفال:60، وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّه} الجمعة:10.
قال العارف باللّه سهل بن عبد اللّه التُّستَرِي رضي اللّه عنه: “مَن طعن في الحركة- يعني: في السّعي
والكسب- فقد طعن في السُّنَّة، ومَن طعن في التوكُّل، فقد طعن في الإيمان” أخرجه أبو نُعيم والبيهقي، فالتوكُّل حالُ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، والكسب سنَّتُه، فمَن عمل على حاله، فلا يتركنّ سنّتَه.