الحقيقة عكست الواقع تماما.. "ننقل حاويات من عنابة إلى وهران بشاحنات ذات مقطورة 12 مترا وسلعة يزيد وزنها عن الطاقة الاستيعابية للشاحنة وبسرعة غير مسموحة وسط مناطق عمرانية يحظر بها السير، تحت حصانة الجهات النافذة التي ستستلم السلعة وتحت رحمة مالكي الشاحنات مقابل ألفين أو ثلاثة آلاف دينار إضافية"، هي اعترافات وحقائق مثيرة كشفها سائقو شاحنات الوزن الثقيل في هذا الروبورتاج لـ"الشروق" التي سترفع الستار عن "مافيا" شركات النقل الخاص للبضائع وجرائم إرهاب عربات الوزن الثقيل.
جرائم إرهاب الحاويات بالطرقات التي يكون فيها السائق دائما في قفص الاتهام، إما متهما بالسرعة الفائقة أو التهور أو النوم إلى غير ذلك، وكانت الحادثة الأخيرة التي تسببت في جرح 31 شخصا كانوا على متن حافلة نقل المسافرين بعد سقوط حاويتين من شاحنة نقل البضائع في العاصمة، النقطة التي أفاضت الكأس، ودفعت بنا لفك لغز الحوادث المريعة التي تتسبب فيها شاحنات نقل الوزن الثقيل عن طريق الحاويات من خلال اختراق مافيا شركات النقل الخاص للبضائع بشهادة السائقين.
لم يكن سهلا علينا الوصول إلى قلوب سائقي شاحنات الوزن الثقيل وبالأخص الناقلة للحاويات، حتى يفتحوا صدروهم لنا ويكشفوا عن حجم التجاوزات "المميتة" التي يتسببون فيها والمخاطرة بحياتهم وحياة آلاف الأبرياء في مناورات لا تحمد عقباها، يتجاوزون فيها كافة شروط السلامة المرورية، أين يظهر السائق على أنه المسؤول رقم واحد، إلا أننا من خلال هذا الروبورتاج استطعنا أن نكتشف وإياكم بعض خبايا عالم "مافيا" الشركات الخاصة لنقل السلع عن طريق شاحنات الوزن الثقيل.
نزلت "الشروق" إلى عديد نقاط تواجد سائقي هذه الشاحنات، كسوق الجملة للمواد الغذائية بالسمار والميناء الجاف بالرويبة، كما استغللنا توقف سائقي الشاحنات على بعد كيلومترات من ميناء العاصمة، في بداية الأمر استصعب علينا الأمر، فمن الصعب إيجاد سائق شاحنة يعترف باستعمال السرعة المفرطة ويقوم بتجاوزات خطيرة، إلا أنه استطعنا كيف نكسب قلوبهم ونحصل على المبتغى.
شاحنات تنقل حاويات تفوق طاقتها بـ 6 أطنان
كانت البداية بسوق الجملة للمواد الغذائية بالسمار واستغلينا قبوع بعض الشاحنات في الزحمة الشديدة، للحديث مع السائق "ج.ب" عامل بشركة خاصة لنقل السلع والبضائع، وبعد تبادلنا معه أطراف الحديث عن بعض تفصيل المهنة، أكد لنا أن أغلب شاحنات الوزن الثقيل لنقل السلع عن طريق الحاويات تقدر طاقة استيعابها بـ19 طنا، إلا أنه في بعض الأحيان -يضيف- يكون وزن السلعة الموجودة بداخل الحاوية تفوق بـ5 أو6 أطنان من الطاقة الاستيعابية للشاحنة، أي أن الشاحنة تتحمل وزن 25 إلى 26 طنا، وهذا يؤثر سلبا على القيادة السليمة، وردود فعل السائق عند القيام بمناورة من أجل تفادي وقوع حادث ما، وبالأخص الفرامل التي تصبح خارج سيطرة السائق في مثل هذه الحالات، كما أن مقطورة الشاحنة عندما تكون تحمل وزنا زائدا تؤثر سلبا على قدرة تحكم السائق في اتجاه الشاحنة.
اتجهنا إلى سائق آخر، الذي أكد أن عمل السائق يقتصر على قيادة الشاحنة ونقل السلعة من مكان تواجدها إلى المكان المتفق عليه، وأن مسألة الحمولة الزائدة تحدث بتواطؤ صاحب السلعة مع مالك الشاحنة، ففي ورقة الطريق التي يحملها السائق يدون عليها نوعية السلعة وكميتها ووجهتها، وهنا يقوم صاحب السلعة بالتحايل بطريقة أو بأخرى من خلال عدم تصريحه بوزن السلعة الحقيقية الموجودة داخل الحاوية، فمثلا تكون الحمولة تفوق الـ22 طنا إلى غاية 25 طنا، إلا أنه في الوثائق التي يحملها السائق يصرح بـ17 أو 18 طنا تفاديا لتعرض الشاحنة أو سائقها لعقوبات خلال مرورها بالحواجز الأمنية ومراكز التفتيش.
سائقون يعترفون: نخاطر بحياتنا وحياة الآخرين مقابل 3000 دج
لا شيء من دون مقابل" مبدأ يعرفه العام والخاص، ففي محاولة منا لمعرفة كيف يحدث أن يقبل صاحب الشاحنة بذلك، يقول سائق آخر "حتى يرضى صاحب شركة النقل بنقل سلعة حاوية تزيد حمولتها عن الطاقة الاستيعابية للشاحنة التي يملك، فعلى صاحب السلعة أن يدفع مالا أكثر وترتفع فاتورة النقل كلما كانت وجهة السلعة بعيدة".
وعندما استفسرنا من السائقين أنفسهم كيف لهم أن يقبلوا قيادة شاحنة بوزن لا يسمح لهم التحكم فيها في حالة أي مناورة أو تجاوز خطيرة، كانت إجاباتهم صادمة.. ظروفنا المعيشية ونقص فرص العمل تفرض علينا أحيانا خرق قوانين السلامة المرورية والقيام بمناورات خطيرة والتسبب في حوادث مميتة"، مضيفين: "مالكو شركة نقل البضائع يفرضون علينا نقل سلعة من مكان إلى آخر في وقت يستغرق في العادة يوما كاملا، خلال 5 أو 6 ساعات مقابل بعض المنح المالية لا تزيد عن ثلاثة آلاف دينار، ثم يقولون أن السائق هو المسؤول"، وما فهمناه من تصريحات هؤلاء أن لا دخل لهم إن كان أصحاب شركات النقل غير ملزمين بدفتر شروط ولا يحترمون شروط نقل السلع.
وفي مثل هذه الحالات يجد السائق نفسه مجبرا على الانطلاق مثلا من ميناء الجزائر على الساعة التاسعة مساء باتجاه سطيف أو العلمة أو بجاية، على أن يعود في حوالي الساعة الرابعة أو الخامسة من صباح اليوم الموالي مقابل المبلغ المذكور، لأن صاحب الشاحنة -يؤكد عمي صالح- تكون بانتظاره سلع أخرى لنقلها، وأحيانا يكلف ذات السائق بنقل الحاوية، مضيفا بنبرة مرتفعة "كل هذه الضغوطات تدفع السائق وتحتم عليه ارتكاب تجاوزات تحت ضغط العمل والتعب الشديد الذي ينال منه طيلة ليلة كاملة من القيادة".
بين خيار خرق القانون أو الطرد من العمل
فخيار القيادة المتهورة والقيام بمناورات خطيرة في أماكن لا يسمح بها القانون، كلها أمور اعترف بها السائقون، مع الإقرار على أنهم يفعلونها مكرهين حتى يلبوا ما اتفق عليه مالك الشاحنة وصاحب السلعة، مضيفين أن درجة تهور بعض السائقين تصل إلى حد تعريض نفسه لخطر "الموت" من خلال إدراكه أن حمولة الحاوية زائدة ولا يستطيع التحكم أو السيطرة على الفرامل، في حالة مناورة أو حادث فجائي في الطريق وسيتسبب بكارثة قد تؤدي بحياته وحياة الآخرين، إلا أن البعض يتعمد القيادة بسرعة فائقة وفي طرق مهترئة تؤثر على وضعية الحاوية على ظهر المقطورة من أجل الوصول أو العودة إلى البيت في أقصر وقت ممكن.
"من يريد أن يعرض حياته أو حياة الآخرين للموت المحقق؟" كانت إحدى الإجابات التي تلقيناها من طرف بعض السائقين، الذين قبلوا الخوض معنا في أطوار الحديث على حافة الطريق السريع على بعد كيلومترات وهم ينتظرون دخول ميناء الجزائر العاصمة، يروي المتحدث الذي يملك أكثر من 13 سنة من الخبرة في قيادة شاحنات الوزن الثقيل ويؤكد: "كنت أقود شاحنة محملة بسلعة تفوق الـ20 طنا، وعندما كنت بصدد القيام بمناورة لتفادي الاصطدام بسارة سياحية لم أستطع حتى التحكم في اتجاه الشاحنة تماما، لحسن الحظ كانت السيارات الأخرى بعيدة عني.. أنا أعلم ماذا يعني الوزن الزائد، ولكن ليس لدي أي حيلة، ماذا أقول لرب العمل، لا أنقل الحاوية.. سيجيبني ضع مفاتيح الشاحنة وربي يسهل عليك".
حاويات خردة وغياب الرقابة يؤدي إلى الكارثة
الحوادث المتعلقة بانزلاق أو سقوط الحاويات من على القاطرة، يقول بشأنها محدثونا أن هناك حالتين، فعندما تسقط الحاوية لوحدها من دون أن تنقلب معها الشاحنة، فهنا مسؤولية السائق الذي لم يحترم شروط سلامة تثبيت الحاويات على مقطورة الشاحنة، والذي يكون عن طريق وضعها بدقة على البراغي الحديدية الستة الموجودة على ظهر المقطورة، كما يجب لفها حتى يتم التثبيت بطريقة محكمة، موضحين أنه يوجد بعض السائقين لا يتأكدون حتى من سلامة وضع الحاوية في مكانها، خاصة لما تكون مسافة نقل البضاعة قريبة من العاصمة مثلا إلى إحدى الولايات المجاورة كبومرداس أو البويرة أو تيبازة.
كما لفت محدثونا الانتباه إلى مشكل آخر قد لا يعرفه الكثير، وهو كراء الحاويات بصورة عشوائية من طرف الخواص، خاصة أن حاويتهم مهترئة ولا تصلح لنقل البضائع، ناهيك عن أنها لا تتوفر فيها كافة شروط السلامة، ومع ذلك فإنها تستعمل بصفة عادية ولا أحد يعترض طريقها من شرق البلاد إلى غربها.
رشوة وهدايا لسير الشاحنات وسط المدن نهارا
أثار السائقون نقطة مهمة جدا، فالكثير يتساءل عند مشاهدة شاحنة ذات مقطورة 12 مترا تسير وسط العاصمة، مع وجود تعليمة تمنع ذلك، وفي هذا الشق بالتحديد يقول "خ.ب" وهو يبتسم: "النقود أو كأننا نملك حصانة برلمانية"، ويضيف: "حصانة الجهات النافذة أصحاب السلع بالولايات التي نقصدها تحول دون أن نتعرض للتوقيف في بعض الحواجز الأمنية أو من قبل السلطات المحلية".
كما يتلقى مالك الشاحنة حسب شهادة السائقين ضمانات مسبقة من طرف صاحب السلعة بتولي كافة الأمور بالحواجز الأمنية، وفي بعض الأحيان يتم رشي وتقديم هدايا للمسؤولين المحليين مقابل الحصول على رخص استثنائية لدخول الشاحنات المحسوبة على فلان أو فلان إلى المناطق العمرانية المحظورة، فكثير من المرات عندما نستفسر من الجهات التي نقصدها عن مشكلة حظر سير الشاحنات نهارا، نتلقى الإجابة "عليكم بقيادة الشاحنة وحسب إلى المكان المتفق عليه".
سائق يعترف لـ"الشروق": أبدت عائلة بكاملها بسبب الحمولة الزائدة
"الشروق" تنقل تفاصيل حديث مريع، تسبب فيه سائق شاحنة بحمولة زائدة أباد عائلة، حيث يروي مأساة التسبب في إبادة عائلة نجا منها فرد واحد فقط، بسبب عدم السيطرة على فرامل الشاحنة نتيجة الحمولة الزائدة، ومن خلال نبرات حديثه وملامح وجهه، بدا عليه التأثر البالغ وهو يعود بنا إلى تفاصيل الحادث مأساوي... "لو لم يكن وزن الحاوية زائدا لاستطعت التحكم في الفرامل والسيطرة على الشاحنة".. يذرف الدموع ويضيف: "بالرغم من أنني لست المسؤول... لأن صاحب السيارة هو من قام بتجاوزات خطيرة، ولكن كان بإمكاني تجنب الحادث، لأن السيارة توقفت مكانها ولم يكن لدى السائق خيار تجنب مسار الشاحنة"، يواصل "لما ضغطت على الفرامل بكل ما تملك رجلي من قوة، كنت أحس ثقل الحاوية يدفع بالشاحنة إلى الأمام".
الناطق الرسمي للاتحاد العام للتجار الجزائريين، الطاهر بولنوار:
20 ألف شاحنة تدخل العاصمة.. وإخراج أسواق الجملة والموانئ من وسط المدن ضروري
يقول الطاهر بولنوار في هذا الموضوع، أنه حان الوقت لإخراج كافة أسوق الجملة ونصف الجملة وحتى الموانئ من وسط المدن، بسبب ما أصبحت تحدثه شاحنات الوزن الثقيل التي تتردد على هذه الفضاءات، فزيادة على الحوادث الخطيرة التي تتسبب فيها الشاحنات، فهي تعيق وتشل حركة المرور وسط المدن بشكل مستمر.
كما شدد بولنوار على تطبيق تعليمات حظر شاحنات الوزن الثقيل السير وسط المدن والمناطق العمرانية بحذافيرها، قائلا: "صحيح، أن نشاط تجار الجملة يعتمد على مثل هذه الشاحنات، لكن يمكن إيجاد الحلول وتخصيص الفترات الليلية لدخول الشاحنات إلى أسواق الجملة"، خاصة أن الإحصائيات حسب المتحدث تثبت أن أكثر من 20 ألف شاحنة وزن ثقيل تتردد على المناطق العمرانية بالعاصمة يوميا.
رئيس الاتحادية الوطنية للناقلين الخواص، بوشريط:
عدد الشاحنات فاق عدد حافلات نقل المسافرين بالعاصمة
من جهته، اعتبر عبد القادر بوشريط، أن عدم وجود وسائل المراقبة وعدم تطبيق القانون، في ظل النشاط العشوائي الذي يطبع شركات النقل الخاص، ساهم في خروج الأمور عن نطاقها، مضيفا أن السائق مفروض عليه دخول مناطق عمرانية من طرف المؤسسة التي يشتغل لحسبها، وأكد المتحدث أنه يجب على مسؤولي وزارة النقل تطهير القطاع وفرض دفتر شروط على الشركات الخاصة لنقل البضائع عن طريق شاحنات الوزن الثقيل، والحد من المنافسة غير الشرعية بين هؤلاء، مؤكدا أن عدد شاحنات الوزن الثقيل المقدر عددها بأكثر من 65 ألف شاحنة قد فاق عدد حافلات نقل المسافرين.
المكلف بالإعلام على مستوى الحماية المدنية، فاروق عاشور:
الحل يكمن في رخصة السياقة المحترفة وتكوين السائقين
ذهب المكلف بالإعلام على مستوى الحماية المدنية، فاروق عاشور، إلى ضرورة تطبيق بند رخصة السياقة الاحترافية وإخضاع سائقي نقل البضائع لتكوين يسمح لهم باكتساب تقنيات القيادة السلمية دون أخطاء فادحة تتسبب في حوادث مرور مميتة.
ويضيف عاشور: "لما يكون السائق متكونا يعرف كيف يتعامل مع تأثر عمل الفرامل بحمولة الشاحنة، وحتى تكوينه في مسألة تثبيت الحمولة على ظهر الشاحنة، وكذا كيفية كيف التصرف حين يقوم بمناورة لتفادي حادث ما"، كما أن رخصة السياقة المحترفة -يقول المتحدث- ستسمح للسائق التحلي بالمهنية وتحمل المسؤولية ليصبح فيما بعد جزءا من منظومة السلامة المرورية، كما يؤكد فاروق عاشور أن تطبيق رخصة مثل هذا النوع معناه انه سيتم فرض دفتر شروط على أصحاب شركات النقل الذي سينص في طياته على احترام شروط السلامة الأمنية.