فقد امتنّ الله على عباده وأبرز لهم نعمة المركب، ونعمة البديل في حمل الأثقال، وطيّ مسافة الأسفار، بتسخير الأنعام، فقال سبحانه: {«َالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ”.
تشير الآية الكريمة إلى ما أحدثه الإنسان من وسائل الركوب والتنقل وبدائل البهائم والأنعام، وعدّت ذلك من صُنوف النِّعم، فهذه الوسائل الحديثة من نعم الله الّذي هدى الإنسان لاختراعها وابتكارها لا يُنكر ذلك إلّا جاحد، فإنّ كثيرًا من النّاس من يشكر الصّانع ولا يشكر خالق الصّانع، نعوذ بالله من كُفران النّعم وجحود المِنن.
هذه السيارات والمراكب نعمة من الله، صنعها الإنسان بهداية من الله الّذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وهذه النّعمة لم يهتد لشكرها ولا التحدّث عن فضلها إلّا القليل، فإذا حدّثك أحد عنها لم يُحدّثك إلّا عن مصدرها ومَصنعها ووسائل رفاهيتها، فنحن عرفنا قدرَ المُخترِع ولم نعرف قدْر النّعمة والمُخترَع، ولذلك لم تُستعمل على وجهها الصّحيح مائة في المائة، هذه السيارات قادها الصّغير والكبير، الرّجل والمرأة والعاقل والسّفيه، منهم مَن أحسن التصرّف بها فأحسنت إليه، ومنهم مَن أساء استغلالها فأودت به، استعملها بعض النّاس في نفع أنفسهم وإدارة مصالحهم، وأحسنوا بها إلى جيرانهم وإخوانهم عند الحاجة، فاستحقّوا الشّكر ظاهرًا، والثّناء بظهر الغيب، واستعملها آخرون في أغراضهم السيّئة ومآربهم السّافلة، فاستحقّوا الذمّ والإثم، وحوّلوها نقمة بدل أن تكون نعمة.
السيارات نعمة، وقليل من النّاس مَن يحمد الله عليها، إذ تحمل مريضك وتنقل أُسرتك، وتصل بها رحمك، وتُكسبُك الأجر والثّواب إذا أحسنت بها للمسلمين إخوانَك، السيارة نعمة عند مَن رزقه الله بصيرة، فهو يُبصر نعم الله، ويُحسن استعمال ما رَزق الله، فهي إذن نعمة، أمّا النِّقمة فهي تلك التصرّفات الّتي لا صلة لها بالدّين، ولا بالسّلوك المستقيم، النّقمة هي أن يُسلّمها بعض النّاس إلى مَن لا يُحسن استعمالها، النّقمة حين وكّل قيادتها النّاس إلى قوم صغار السنّ، أو صغار العقل والفهم، تجد الواحد من هؤلاء الصّغار في العمر أو التّفكير إذا استلمها فكأنّما ينتقم لنفسه لأنّه حُرمها، فتجد الصّغير يقود سيارة أبيه وهو لا يكاد يرى شيئًا من نافذتها وزجاجها، وتجد الآخر كبير، لكنّه ضيّق الفهم، صغير العقل، يحسب أنّ هذه لُعبة حُرمها في الصّغر فجاء الدور ليلعب بها في الكبر، فتجده متهوّرًا في قيادته، لا يُراعي الأنظمة المرورية ولا قوانين السّير، لا يُبالي بأرواح مَن حوله فضلًا عن روحه ونفسه، لا يهتم لقيمة ما بين يديه، همّه الوحيد قضاء وطره في المرح والتجوال ونظر النّاس إليه، وتجد بعض النّاس حين يسير في الطّريق لا يعرف السّكينة، بل يأخذ ذات اليمين وذات الشّمال، يُسرع حيث يجب أن يُبْطئ، ويتجاوز حيث لا يُسمح بذلك، يسير في الخط المعاكس لاتجاهه ويسلب حقّ الغير في المرور، وغير هذا من المخالفات الّتي يعيشها النّاس يوميًا.
إنّ العاقل ليعجب من قيادة هؤلاء، ويعجب ممّن يُعطي قيادة هذه الآلات الحديدية للصّغار الّذين يضعون أنفسهم وغيرهم في الخطر ثمّ لا يُحسنون الخروج منه بسلام، إنّ العاقل ليعجب من المتهوّرين الّذين لا يُراعون قوانين النّظام العام، ولا حرمة أرواح المسلمين، إنّ العاقل في دهشة حين يرى مواكب الأعراس تتحوّل إلى مآتم وإصابات جرّاء التلاعب بالسيارات، إنّ العاقل لفي حيرة أن صارت الطّرقات كأنّها ميادينَ حرب بين النّاس، حيث يُسجّل عدد ضحايا الطّرق كلّ عام ما سجّلته أمريكا من قتلى الحرب على أفغانستان كلّ سنة، وليس القصد من التّمثيل سوى بيان أنّ الطّرق صارت خطرًا على السّالكين. إنّنا نسير قُدمًا نحو المرتبة الأولى ليس في الاقتصاد أو التّعليم أو غيرهما من مجالات القوّة والازدهار، إنّ مجتمعنا قريب من المرتبة الأولى في حوادث السّير وعدد قتلى الطّرقات، فحسب بعض التقارير إنّنا في المرتبة الثانية عالميا، فعدد من يُقتل جرّاء حوادث السيارات (4540) حسب إحصائيات سنة 2013، والرقم في صعود مستمرّ سنة بعد أخرى، فيكون معدل القتلى في اليوم عشرة قتلى أو يزيد قليلًا، وإن شئتم ذكّرتكم بهول الحادث الّذي وقع قبل عيد الأضحى على أطراف مدينة الأغواط، حيث قتل سبعة عشر شخصًا، حصاد يومين في يوم، وإنّ إحصائيات هذه السنة إلى اليوم تقول إنّه قد بلغ نفس العدد ولم تنته السنة بعدُ، مما يعني أنّه مرشح للارتفاع، وتقول الإحصائيات إنّ ثلث القتلى من الأطفال، فهل تسير المركبات على الطّريق أم على الرّصيف حتّى تُحصد كلّ هذه الأرواح؟