تلك الخزنة الحديدية المشفرة المثبتة في جدار وراء لوحة فنية مثلا. لكن الواقع اليوم بعيد عن هذا، فالخزنة المصفحة نجدها في بيوت أشخاص من جميع المستويات الاجتماعية. دفعت عمليات السطو المنظمة التي تستهدف البيوت، إلى جانب تراجع ثقة الكثير من الجزائريين في البنوك بعد فضيحة بنك الخليفة، إلى تبني الكثيرين خيار حفظ الأموال والممتلكات الثمينة التي يسهل سرقتها كالمجوهرات في البيت، في خزنة مصفحة ومشفرة لإبعادها عن عبث اللصوص. فليس ضروريا أن تكون مليونيرا، رجل أعمال أو تاجرا حتى تقتني خزنة مصفحة تضعها في بيتك لتطمئن على أغراضك الثمينة ووثائقك المهمة أيضا، وهو ما وقفنا عليه في جولة إلى محلات بيع الخزنات في العاصمة. ولعل تضاعف عدد المحلات التي تعرض هذه “السلعة”، أصدق دليل على أن الإقبال عليها في تزايد. وجهتنا الأولى كانت حي القبة، المحل لم يكن كبيرا وكان يعرض التجهيزات المكتبية، إلى جانب الخزنات المصفحة. استوقفنا صاحبه بعد أن طال انتظارنا له حتى يفرغ من الحديث إلى زبون اقتنى خزنة متوسطة الحجم، وراح يسأل عن أدق التفاصيل المتعلقة بالرقم السري أو “الشفرة” وطريقة تغييرها، وغيرها من التفاصيل. النساء.. الزبون رقم واحد سألنا الزبون عن سبب اقتناء الخزنة المصفحة، وبررنا فضولنا طبعا بالكشف عن هويتنا بعد أن رمقنا محدثنا بنظرة مستغربة، فرد ضاحكا: “لست من أصحاب المال والأعمال، أنا موظف عادي، اقتنيته من أجل حفظ مجوهرات زوجتي والوثائق المهمة، إلى جانب الأموال طبعا.. لم يعد هناك أمان، قبل أيام فقط تعرض بيت جاري في زرالدة بالعاصمة إلى عملية سطو فقد فيها نحو 14 مليون سنتيم”. افترضت أن سرقة أموال جاره كانت ستحفزه ربما أكثر لتجنب الاحتفاظ بالأموال في البيت، فجاء رد محدثي سريعا: “أكيد أنني أحتفظ بأموالي في البنك، لكن وضع بعض الأموال في البيت للضرورة مهم أيضا، وتأمين مجوهرات الزوجة لا يقل أهمية، فلابد من وجود الخزنة”. وهنا تدخل صاحب المحل الذي راح يسرد قصة إحدى زبوناته التي فقدت مجوهرات بقيمة 400 مليون سنتيم، منها حزام ذهبي وأطقم مرصعة بأحجار كريمة، عندما كانت تحتفل بزفاف ابنها في البيت العائلي، والسارق طبعا لم يكن إلا أحد أفراد العائلة، وجد الذهب في متناوله، لأنه كان محفوظا في صندوق بسيط، له رقم سري صحيح، لكن يمكن حمله وإخفاؤه بسهولة. حديثنا جذب سيدة دخلت المحل فقط من أجل اقتناء أغراض مكتبية، غير أن حديثنا شدها فتدخلت لتذكر حادثة وقعت لها في بيتها، قائلة: “ليس هناك أكثر أمانا من حفظ الأموال والمجوهرات الثمينة في صندوق خاص في البنك”. وواصلت السيدة تروي حادثة وقعت لها وشقيقتها، قائلة: “بحكم أنني وشقيقاتي موظفات ونقضي جل الوقت خارجا، كنا نحتفظ بمجوهراتنا في بيت والدتي بحكم أنها لا تغادره إلا نادرا، غير أن اللصوص كانوا بالمرصاد، راقبوها عند خروجها للتسوق صباحا واقتحموا البيت وأخذوا صندوقا تحتفظ فيه بجميع المجوهرات التي تتجاوز قيمتها 600 مليون، ولم نعرف إلى اليوم من الفاعل”. تركنا المحل، الذي أكد صاحبه أن تجارة الخزنة الفولاذية انتعش في الفترة الأخيرة، مع بروز من وصفهم بـ”الأغنياء الجدد”، ولم ينكر في الوقت نفسه أنه يستقبل زبائن من جميع الأصناف والمستويات الاجتماعية. وهو نفس ما ذهب إليه صاحب محل في حي الحميز، أكد أن زبائنه من الأثرياء، التجار، الأشخاص العاديين متوسطي الدخل، والنساء وحتى الأفارقة الذين غزوا شوارع العاصمة أيضا. يقول محدثنا، “استقبل الكثير من النساء اللواتي يبحثن عن خزنة للاحتفاظ بمجوهراتهن، والكثير منهن تعرضن للسرقة في السابق حتى من طرف أشخاص من البيت نفسه، فيجدن في تأمين المجوهرات في خزنة لا يحفظ غيرهن رقمها السري الطريقة الأمثل لتجنب السرقة”. وواصل صاحب المحل أن السيدات يخترن الخزنات متوسطة الحجم، من 20 إلى 40 سم، وتكلفتها بين 4500 دينار إلى مليون و4000 دينار. التجار أيضا من بين أهم زبائن هذه الخزنات، فهؤلاء يحتفظون بأموالهم في المحل في الغالب، فلا يمكنهم نقل أموالهم يوميا إلى البيت خوفا من تعرضهم لعملية سطو أو مهاجمة اللصوص، وأيضا لا يمكنهم نقلها يوميا إلى البنك. ويعزف الكثيرون عن حفظ أموالهم في البنوك، رغم أنها المكان الأكثر أمانا، خوفا من ضياع أموالهم أو تعرضها للاختلاس. ولعل فضيحة القرن المتعلقة ببنك الخليفة، أصدق مثال يبرر تخوف هؤلاء، لكن التعاملات المالية الربوية في البنوك أيضا من بين أسباب عزوف البعض عن حفظ أموالهم فيها، والملتزمون تحديدا. وفي السياق، أبرز محدثنا أن هؤلاء من بين الزبائن الذين يختارون حفظ أموالهم في البيت، وحجتهم في ذلك أنه حتى ولو كانت الزيادات الربوية لا تمس أمواله المحفوظة في البنك، إلا أن أمواله تستغل في منح قروض ربوية لزبائن البنك، وهو لا يريد أن يشارك في هذه العملية.
أصناف متنوعة وأسعار من 4 آلاف دينار إلى 4 ملايين
يبحث الكثير من الزبائن، حسب صاحب محل لبيع الخزنات المصفحة بمنطقة الحميز بالعاصمة، عن أكثر الخزانات أمانا مهما بلغ ثمنها، وهو يتراوح من 4000 دينار إلى 4 ملايين سنتيم، وربما أكثر، حسب نوعية الخزنة، بلد التصنيع، الشفرة، وتوفرها أيضا على جهاز الإنذار في حال حاول أحدهم فتحها ووضع رقم خاطئ، كما يسأل الكثيرون عن خزنة تتيح إمكانية التثبيت في الحائط لإبعادها عن العيون، وحتى تكون في مكان سري لا يعلمه أحيانا حتى أهل البيت، وهؤلاء كثر، حسب أصحاب المحلات الذين تحدثنا إليهم. “الحرامي” لا ينام ورغم حرص الكثير من زبائن هذه الخزنات العالية التقنية، إلا أن هذا لا يضعها أيضا في منأى عن السرقة وعمليات السطو أحيانا، فهاته الأخيرة لها أيضا لصوص متخصصون في تفكيك شفرتها مهما استعصت، ولعل أخبار السطو التي تسردها يوميا صفحات الجرائد أصدق مثال على ذلك. ونذكر في السياق قضية السرقة التي تعرض لها رجل أعمال وصاحب سلسلة محلات لبيع المجوهرات قبل سنتين، عندما اقتحم اللصوص فيلاته صباحا وهو ذاهب إلى عمله، وكبلوه رفقة أفراد عائلته واستولوا على خزنة كان بها كمية معتبرة من المجوهرات وأموال بالدينار والعملة الصعبة، أخذوها كاملة.. صحيح أن فتحها استعصى ربما على اللصوص، غير أنهم فتحوها في الأخير.. فما هو المكان الأكثر أمانا لحفظ أموالنا؟ كما عالجت فرق البحث والتحري بأمن ولاية العاصمة، في جانفي الماضي، قضية تخص السطو والسرقات التي طالت عددا من المؤسسات الخاصة، والتي تعرضت إلى سرقة خزائنها الفولاذية المخصصة لجمع وتخزين الأموال، ويتعلق الأمر بثلاث شركات تقع شرق العاصمة، وتحديدا بمنطقة الدار البيضاء والحميز، تعرضت إلى سرقة ليلية لخزائنها، وقد سجلت القضايا في مواقيت متفرقة، في حين لم يختلف سيناريو السرقة. ويقوم أفراد الشبكة الموقوفون والبالغ عددهم خمسة أشخاص، بالاعتداء على أعوان الحراسة العاملين بالشركات المستهدفة قبل التمكن من نقل الخزائن. وقد استرجعت مصالح الأمن الخزائن المسروقة مع مبلغ مالي يفوق 400 مليون سنتيم. “الكوفر فور”.. ملاذ المهاجرين الأفارقة أيضا الأفارقة الذين غزوا شوارع العاصمة للتسول واستجداء كرم الجزائريين ليجودوا عليهم ببعض الدراهم، ويصلون في الغالب إلى مبتغاهم، أو أولئك الذين تسيل قضاياهم الكثير من الحبر يوميا على صفحات الجرائد لتورطهم في قضايا المخدرات والاحتيال، من زبائن الخزنات المصفحة أيضا، حسب صاحب محل يقع في الحميز بالجزائر العاصمة، مضيفا: “هؤلاء يترددون علينا كثيرا لاقتناء الخزنات من جميع الأنواع والأحجام من أجل حفظ أموالهم خوفا من تعرّضهم للسرقة”. ويفضل البعض منهم، حسب صاحب محل آخر في الحميز أيضا، تخزين أموالهم في البيت، خوفا من تعرضها إلى المصادرة أو حجزها في حال متابعتهم قضائيا أو في حال ترحيلهم، إلى جانب أن أغلبهم دخلوا الجزائر بطريقة غير شرعية، وبالتالي لا يمتلكون الوثائق الضرورية التي تسمح لهم بفتح حساب بنكي.
كلمات دلالية :
بنوك سرية في بيوت الجزائريين