وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأشهر، ففي الصحيحين عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب في حجَّة الوداع، فقال في خطبته: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ".
وقد ختم الله الآية السابقة بقوله: { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] فالظلم على كل حال من العظائم، ولكنه في الأشهر الحرم أعظمُ من الظلم فيما سواها، وتعظيم ما عظّم الله من صفات المؤمنين.
واجتِراحُ السيِّئات، ومقارَفَةُ الآثام من ظلم النفس، وهو في الشهر الحرام أشدُّ سوءًا، وأعظم شؤمًا، وأفدح ظلمًا؛ لأنّه يجمع بين الذنب وبين امتهان حُرمةِ ما حرَّم الله وعظَّمه؛ قال الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ} [البقرة:217]، وهذا في ابتدأ القتال، أما من اعتُدي عليه، فإنه يدافع عن نفسه؛ قال تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة:191]، كما أن اجرَ العملِ الصالحِ في الشهر الحرام أعظم.
إنَّ أهل الجاهلية مع ما هم عليه من الكفر والشرك والجهل فإنهم يُعظمون الأشهر الحرم، وإذا أرادوا انتهاك حرمةٍ فيها أنْسَؤُهَا، وهذا بلا شك أمر محرم قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]، فالأَوْلَى بالمسلم الذي يرجو رحمة ربه أن يُعظِّم الأشهر الحرم، فيكفَّ عن الحرام، ويُبادرَ بالتوبة، ويكثر من القُرُبات.
ها نحن في موسم خير عظيم من مواسم الطاعات، وأمام نفحة جديدة من نفحات الرحمن، إنه شهر الله المحرم، الذي خصه الله عن غيره بخصائص وميزه بميزات، فشرَّفَهُ وكرَّمَهُ بإضافته الله إليه جل وعلا، وجعل صيامه أفضلَ الصيامِ بعد رمضان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ».
في هذا شهر الله المحرم يومٌ عظيمٌ، إنه اليومُ العاشرُ منه، لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومونه، فسأل عنه فقالوا: هذا يوم صالح نجَّى الله فيه موسى ومن معه من بني إسرائيل من عدوهم؛ فصامه موسى عليه السلام، فقال صلى الله عليه وسلم: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ»، فصيام اليوم العاشر سُنَّةٌ مؤكدة، وفيه أجر عظيم، عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ».
ومن السنة لمن صامه أن يصوم يومًا قبله أو يومًا بعده، فقد قال الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال صلى الله عليه وسلم: "فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، إِنْ شَاءَ اللّهُ، صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ" أي مع العاشر فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّىٰ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، وصوموا قبله يومًا أو بعده يومًا».
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى:"مراتب صومه ثلاث، أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم" ا.هـ زاد المعاد 2 /75.
ويستحب حَثُّ الصبيان على صيامه؛ فعن الرُّبيِّع بنت معوِّذٍ رضي الله عنها قالت: فكنا نصومه ونصوِّمه صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار.
فسارعوا عباد الله إلى الطاعة، واجتهدوا في العبادة، واطلبوا المغفرة في هذا الموسم المبارك وهذا الشهر الفضيل، لتحوزوا خيري الدنيا والآخرة.
///////////////////////////////////////////