لأن المصاحبة والأخوّة قامت على رؤية الصور فقط، أم على الحديث؟ إنما قامت على الحديث، وحركة اللسان هذا مع حركة لسان الآخر تُقيم بين القلوب تآلفاً، فلذلك لابد أن تبذل اللسان لأخيك. لهذا مظاهر: تبذل اللسان في التودُّد له، يعني لا تكن شحيحاً بلسانك عن أن تتودد لأخيك، والنبي صلوات الله وسلامه عليه قال: «إذا أحبَّ أحدُكم أخاه في اللهِ فلْيُعلِمْهُ ، فإنَّهُ أبْقَى في الأُلْفةِ ، وأثْبَتُ في المَوَدَّةِ» (صحيح الجامع 280)، هذا من أنواع بذل اللسان، وهذا يورث المودة، يورث المحبة، ومن الناس من يقول هذه الكلمة وهو غير صادق فيها، أو غير عالم بحقيقة معناها، يقول أحبّك في الله، إذا قلت لآخر أحبك في الله، فمعنى ذلك أن في قلبك محبة لهذا؛ محبة خاصة في الله ولله، فيقتضي أن تحفظ حقه، أما أن تقول له أحبك في الله وأنت في الحقيقة لا تحفظ له حقا، فما حقيقة المحبة إذن، الأول أن تتودد له باللسان؛ بمثل أن تقول له هذه الكلمة، بأن تتكلم معه بأحسن الكلام، وقد قال جل وعلا {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53]، فهذا بذل اللسان لأخيه أن تنتقي في معاملتك مع إخوانك ومع خاصتك بل ومع المسلمين بعامة أن تنتقي اللفظ الحسن فقط؟ لا، ولكن أحسن الألفاظ لأن الله جل وعلا أمر بذلك فإذا توددت له باللسان وذكرت له أحسن ما تجد فإن هذا فيه إقامة علاقة القلب ومحبة القلب وفي هذا من المصالح التي تكون في المجتمع المسلم وفي قلوب المؤمنين بعضهم مع بعض ما يضيق المقام عن ذكره وعن تَعداده.
من مظاهر التودد باللسان أو بذل اللسان له؛ من مظاهر بذل اللسان للأخ أن تثني عليه في غير حضوره إذا خالطتَ أحداً وتعلم من أخيك هذا صفات محمودة، تثني عليه في غير حضوره؛ لأنك إذا أثنيت عليه في حضوره صار مدحاً، والمدح ممنوع لأنه يورث عجباً، لكن تثني عليه في غير حضوره، هل الثناء عليه لابد أن يبلغه، فتقوم المحبة صادقة، فتقوم المحبة قياماً صحيحاً، الثاني أن ذكر محاسن أخيك عند غيرك تجعل أولئك يجتهدون في الاقتداء، ويعلمون أن الخير فيه أناس كثيرون يعملون به، فالمرء إذا ذُكر عنده الخير تشجع له، وإذا ذكرت عنده الشرور تشجع لها، فذكر الخيرات في المجالس هو الذي ينبغي، أما ذكر الشرور وذكر الآفات وذكر المعايب فإنه هو الذي يجب الالتفات عنه، لأن في ذكر المعايب ما ييسر سبيل الاقتداء بأهلها فيها، وفي ذكر المحاسن والثناء على أصحابها فيه ما يشجع على الاقتداء بهم فيها، فإذن من حق أخيك عليك أنك إذا نظرت له من حسنة فلا تخفها، وإذا نظرت منه إلى سيئة فأخفها، وفي ذلك من المصالح ما هو معلوم، أيضا يتبع هذا المظهر أنه إذا أثنى عليه فتدخل السرور على قلبه بإبلاغه بالثناء عليه، أثنى عليك بعض الأخوة في مجلس، أثنى عليك فلان لأنه هو لا يعلم، فإذا علم أن فلاناً أثنى عليه صار قلبه محباً له، والناس محبون لمن أحسن إليهم: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ *** فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
والإحسان يكون بالكلمة كما يكون بالفعل، فإذا سمعت أن هناك من يثني عليه فتبلغه؛ الحمد لله والله أثنى عليك فلان وقال عليك خيراً نسأل لك الثبات ونحو ذلك، وهذا يشجعه، الآخر ينبغي له في حقه أن ينتبه لنفسه، وإذا اُُثْنِيَ عليه يعلم أن المنة من الله جل وعلا عليه عظمت، وأن شكر الله بملازمة ما أُثْنِيَ عليه به من الحق، وألا يغتَرَّ بنفسه.
من مظاهر بذل اللسان للأخ شكرُه على بذله وعلى حسن المعاملة، لأن النبي صلوات الله وسلامه عليه قال: «لا يشكُرُ اللهَ مَن لا يشكُرُ النَّاسَ» (كتاب الآداب الشرعية 1/330 إسناده صحيح)، «من صنع إليكم معروفًا فكافِئُوه، فإن لم تَستطيعُوا فادعُوا له حتى تعلمُوا أنكم قد كافأتموهُ» (تخريج الإحياء: إسناده صحيح) إذا لم تجد ما تكافئه لتجازيه خيراً؛ فلتدعُ له و تشكره، هذا من حق الأخ لأخيه، من الناس من يأخذ ويأخذ ويأخذ ولا يعوض ولا يثني ولا يذكر، إذا لم تستطع أن تبذل بكلمة، ابذل برسالة، ابذل بورقة، بنصف ورقة، فإن هذا فيه أثر، وفيه تشجيع لأبواب الخير، وقد قال علي فيما روي عنه "من لم يحمد أخاه على حسن النية، لم يحمده على حسن الصنيعة" هذه مرتبة عُليا؛ لأن أخاك إذا بذل لك فإنه في أول الأمر حَسَّن نيته معك، وعاملك معاملة من يريد الخير، قد يكون بذل لك فعلاً، أو يكون أراد أن يبذل، ولم يحصل له، يشكره حتى على حسن النية على ما قام في قلبه، لأن في هذا عقد للأخوة، وفيه تشجيع على بذل الخير، وأن يبذل كل أخ لأخيه و يعني أيضاً لو فعل معه صنيعة فإنه ربما لم يحمده عليها.