وتحرص على (العدد) مقابل (الصفة والأداء)، ولذا ربما يهز الإنسان القرآن هزًّا كهزِّ الشعر، ونثرًا كنثر الدقل، لا يقف عند حدوده وآياته ومعانيه، وهمه آخر السورة أو آخر الجزء كما أنكر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه على قراء القرآن الكريم، وفي الأثر المشهور عن أبي عبد الرحمن السلمي أنهم كانوا لا يزيدون على حفظ عشر آيات حتى يعرفوا معانيها وحقها، ويفهموا ما فيها من الحلال والحرام والعظة والقصة، ثم يتجاوزونها إلى غيرها.
والمسلمون اليوم بقدر ما ترى المصحف بين أيديهم وربما في صدورهم، تراهم أيضًا يقتربون من القراءة الروتينية له ويبتعدون عن تأمله وتدبره، ويشطحون عن سماع تقريعه أو إطرائه أو وصفه أو قصته، والعجب لا ينتهي حين ترى أن آيات الله تؤخر عن استلهامها في التربية والفقه والفكر والحركة والإيمان والسلوك، مع إيمان الجميع إيمانًا عميقًا بأولوية النصوص القرآنية على كل شيء وهيمنتها على كل مستوى، فترى الناس يختلفون ويصطرعون حول ظنيات ومصالح وتأويلات ويتركون ما يتفقون كلهم على معناه من صريح القرآن في الدعوة العامة للإيمان والاجتماع حولها بعد إنزال القرآن والنهي عن الاختلاف فيه، بل وترى في القرآن الكريم دعوة مجلجلة إلى أن يخشع الجميع لذكر الله وما نزل من الحق والقرآن، وأن لا تشغلهم صروف السياسة وحدثان العلم والفكر والمال فتقسو قلوبهم وتصدأ نفوسهم: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
أفلا يتدبر العالِم القرآن، أفلا يتدبر الفقيه القرآن، أفلا يتدبر السياسي القرآن، أفلا يتدبر الاقتصادي القرآن، أفلا يتدبر الجميع القرآن، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82] نعم، لرأوا تناقضًا واضطرابًا وتفككًا، ولكن القرآن يعطي قواعد عامة للتعامل مع الحياة يسلّم لها المسلم وهو في غاية الرضا والفرح بأمر الله. يقول ابن مسعود: "إذا سمعت الله عز وجل يقول في كتابه: (يا أيها الذين آمنوا) فأصغ لها سمعك؛ فإنه خير تؤمر به، أو شر تصرف عنه".
فهل يعجز المسلم عن تعويد نفسه وأذنه وجوارحه على تسليم نفسه بكل جوارحه ومفاصله ومشاعره للقرآن؟! أحيانًا أسأل نفسي: كيف يؤثر القرآن فينا إذا كانت نفوسنا ملأى بآراء سابقة راسخة ومستقرة، وليس لأحدنا استعداد لأن يغيرها أو يعيد النظر فيها، وعنده آراء لفلان وفلان من العلماء أو الفقهاء أو الساسة أو الشيوخ أو غيرهم، وهذه الأقوال مقدمة ومسلمة، ولا يمكن تجاوزها ولا مناقشتها، إضافة إلى شهوات مسيطرة على الإنسان، وخلفيات ثقافية ومعرفية ومجتمعية تضع عشرات العوائق والعقبات أشبه شيء بالغلاف الذي يحجب عن فهم القرآن بكل معانيه فهي الأكنة التي يذكرها القرآن؟!
ونحن لا نشك في إسلام وصدق هؤلاء إلا أن هذا اللاوعي يؤثر في الإدراك حيث لا يشعر الإنسان ما لم يراجع ويحاول بكل قوته وإمكانياته، فإذا اجتمعت كل هذه المشاكل أمام فهم القرآن فكيف سيفهم المسلم هذا النص القرآني العظيم؟ إن علينا أن نحتفي بتوجيه الله، وأن نستسلم ونقف عند كل تصحيح قرآني للأخطاء والعادات المحكمة في مجتمعاتنا، بحيث يكون عندنا استعداد تام لأن نعتبر هذه الأشياء الكثيرة ونقترب من تطبيق وامتثال هذا القرآن الكريم. ولو نظرنا إلى الجيل المثالي -جيل الصحابة- كيف تعايشوا مع القرآن؟ وما هي الآيات التي عملوا بها؟ لوجدنا أنهم سلموا أنفسهم للقرآن.
ولذلك أقول: لنطرح على أنفسنا جميعا شعار: (سلم نفسك للقرآن) لنكون كما أمر الله عز وجل وعلى الوجه الذي يأمر سبحانه وتعالى، فإذا استطعنا أن نسيطر على أنفسنا، ونحكم فيها القرآن، ونكشف مواطن الخلل والضعف والقصور، ونجعل المرجعية له، فهنا نكون سلمنا أنفسنا له، واهتدينا إلى تدبره.