في هذا الحديث يوصينا النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بوصايا عظيمة، أو هذه الوصايا: - تقوى الله عز وجل، وهي وصية عظيمة، والتقوى وصية الله للأولين والآخرين قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواالله). وقال تعالى: (وَاتَّقُوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). والمعنى اتقوا سخطه وغضبه وهو أعظم ما يتقى.
وقال تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ). وقد عرّف الإمام على رضي اللهعنه التقوى بقوله: - هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والإستعداد ليوم الرحيل. أن تخاف من الله عز وجل، حتى إذا سولت لك نفسك فعل معصية تعلم أن اللهتعالى يراك. والعمل بالتنزيل، أن تعمل بما جاء في القرآن الكريم كما كان النبي صلى اللهعليه وسلم كان قرآنًا يمشي على الأرض. والرضا بالقليل، أن ترضى بما قسم الله تعالى لك، وتنظر إلى من تحتك ولا تنظر إلى من فوقك. والإستعداد ليوم الرحيل، وهو يوم أن تغادر من هذه الدنيا وحيدًا لا تملك شيئًا كم جئت إلى الدنيا لا تملك شيئًا فستخرج منها لا تملك شيئًا.
وقال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله. وقال عمر بن عبد العزيز: ليس تقوىالله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ولكن تقوى الله ترك ما حرم اللهوأداء ما افترض الله فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير. وقد كان رسول اللهصلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا. وكان يكثر من وصيته لأمته في المجامع العامة والمناسبات الخاصة. ولم يزل السلف يتواصون بها. كان أبوبكر رضي الله عنه يقول في خطبته: أما بعد فإني أوصيكم بتقوىالله وأن تثنوا عليه بما هو أهله وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة وتجمعوا الإلحاف بالمسألة فإنالله أثنى على زكريا وعلى أهل بيته فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
وكمال التقوى وتمامها أن يذر العبد ما لا ريب فيه خشية الوقوع مما به ريب فيجعل شيئا من المباح حما وسياجا للحرام. قال أبو الدرداء: تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الحرام. وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال خشية الحرام. وفي الحديث الشريف: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا باس به حذرا مما به بأس). وهذا يشمل سائر أبواب الدين باب الأموال والفروج ومعاملة الخلق والولايات والاتباع والابتداع وغير ذلك من الأمور. ومن أعظم ما يعين على ذلك طلب العلم والتفقه في الدين لأن أصل التقوى أن يعلم ما يتقى ثم يتقي ولذلك فإن كثيرا من العامة يجترحون الكبائر ويقعون في المعاملات المشكلة ثم بعد ذلك يسألون ويستفتون أهل العلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت). أي اتق الله في السر والعلانية حيث يراه الناس وحيث لا يرونه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (أسألك خشيتك في الغيب والشهادة). وقال لمعاذ بن جبل: (استحيي من الله استحياء رجل ذي هيبة من أهلك). وهذا هو السبب الموجب لخشية الله في السر فإن من علم أن الله يراه حيث كان وأنه مطلع على باطنه وظاهره وسره وعلانيته استحضر ذلك في خلواته وأوجب له ذلك ترك المعاصي في السر.
وتقوى الله في السر علامة على كمال الإيمان وله تأثير عظيم في انشراح الصدر ونور الوجه وراحة البال وإلقاء الله لصاحبه الثناء والمحبة في قلوب المؤمنين. قال ابن مسعود: ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقال سليمان التيمي: إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته. فالسعيد من أصلح ما بينه وبين الله فإن من فعل ذلك أصلح الله ما بينه وبين الناس وألقى محبته وثناءه على لسان الخلق وجعل له القبول في الأرض. والشقي من أفسد ما بينه وبين الله ومن فعل ذلك أفسد الله ما بينه وبين الناس وألقى بغضه وذمه على لسان الخلق وجعل له الجفاء في الأرض.